فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}.
كان حفص عن عاصم يسكت عند قوله: {عوجا} سكتة خفيفة، وعند {مرقدنا} [ص: 52] في سورة يس، وسبب هذه البدأة في هذه السورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث، الروح، والكهف، وذي القرنين، حسبما أمرتهم بهن يهود، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غدًا أخبركم، بجواب سؤالكم، ولم يقل إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل بأن استمسك الوحي عنه خمسة عشر يومًا، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدًا قد تركه ربه الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه إلى غير ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ منه، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله عتاب محمد إليه، جاءه الوحي من الله بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله {الذي أنزل على عبده الكتاب} أي بزعمكم أنتم يا قريش، وهذا كما تقول لرجل يحب مساءتك فلا يرى إلا نعمتك الحمد لله الذي أنعم علي وفعل بي كذا على جهة النقمة عليه، و{الكتاب} هو القرآن، وقوله: {ولم يجعل له عوجًا} أي لم يزله عن طريق الاستقامة، والعوج فقد الاستقامة، وهو بكسر العين في الأمور والطرق وما لا يحس متنصبًا شخصًا، والعوج بفتح العين في الأشخاص كالعصا والحائط ونحوه، وقال ابن عباس: معناه ولم يجعله مخلوقًا، وقوله: {ولم يجعل له عوجًا} يعم هذا وجميع ما ذكره الناس من أنه لا تناقض فيه ومن أنه لا خلل ولا اختلاف فيه. وقوله: {قيمًا} نصب على الحال من {الكتاب}، فهو بمعنى التقديم، مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب قيمًا، واعترض بين الحال وذي الحال قوله: {ولم يجعل له عوجًا} وذكر الطبري هذا التأويل عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوبًا بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله {قيمًا}، وفي بعض مصاحف الصحابة {ولم يجعل له عوجًا لكن جعله قيمًا} قاله قتادة، ومعنى قيم مستقيم، هذا قول ابن عباس والضحاك، وقيل معناه أنه قيم على سائر الكتب بتصديقها، ذكره المهدوي، وهذا محتمل وليس من الاستقامة ويصح أن يكون معنى قيم قيامه بأمر الله عز وجل على العالم، وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عما العالم. والبأس الشديد عذاب الآخرة، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها، ونصبه على المفعول الثاني، والمعنى لينذر العالم، وقوله: {من لدنه} أي من عنده ومن قبله، والضمير في {لدنه} عائد على الله تعالى، وقرأ الجمهور من {لدُنْهُ} بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {من لدْنِهِ} بسكون الدال وإشمام الضم فيها وكسر النون والهاء، وفي {لدن} لغات، يقال: {لدن} مثل سبع، {ولدْن} بسكون الدال {ولُدن} بضم اللام، {ولَدَن} بفتح اللام والدال وهي لفظة مبنية على السكون، ويلحقها حذف النون مع الإضافة، وقرأ عبد الله وطلحة {ويَبْشُر} بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وقوله: {أن لهم أجرًا} تقديره بأن لهم أجرًا، والأجر الحسن نعيم الجنة، ويتقدمه خير الدنيا، و{ماكثين} حال من الضمير في {لهم} و{أبدًا} ظرف لأنه دال على زمن غير متناه.
قال القاضي أبو محمد: وقد أشرت في تفسير هذه الآية إلى أمر اليهود قريشًا بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاث، وينبغي أن تنص كيف كان ذلك.
ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس بسند، أنه قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح. فأقبل النضر وعقبة إلى مكة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكان الأمر ما ذكرناه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الحمد لله}.
قد شرحناه في أول الفاتحة.
والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب: القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة.
قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب {قيّمًا} أي: مستقيمًا عدلًا.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش: {قِيَمًا} بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في [الأنعام: 161].
قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجا} أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العِوَج في [آل عمران: 99].
قوله تعالى: {لينذر بأسًا شديدًا} أي: عذابًا شديدًا، {من لدنه} أي: من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى: لينذر الكافرين {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم} أي: بأن لهم {أجرًا حسنًا} وهو الجنة.
{ماكثين} أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا}.
ذكر ابن إسحاق: «أن قريشًا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد وصِفَا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا فقالت لهما أحبار يهود: سَلُوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديثٌ عَجَب وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبيّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوّافًا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدًا. ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وَحْيًا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح».
قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنًّا فقال له جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]» فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} يعني محمدًا، إنك رسول منّي، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوّتك.
{وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاقَيِّمًا} أي معتدلًا لا اختلاف فيه.
{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابًا أليمًا في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولًا.
{وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدّقوك بما جئت به مما كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال.
{وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} يعني قريشًا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله.
{مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ} الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي لقولهم إن الملائكة بنات الله.
{إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل.
قال ابن هشام: {باخع نفسك} مُهْلك نفسك؛ فيما حدّثني أبو عبيدة.
قال ذو الرُّمّة:
ألا أيّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفسَه ** بشيء نَحَتْه عن يَدَيْه المَقادِرُ

وجمعها باخعون وبخعة.
وهذا البيت في قصيدة له.
وتقول العرب: قد بخعت له نُصْحي ونَفْسي، أي جَهَدت له.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} قال ابن إسحاق: أي أيّهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} أي الأرض، وإن ما عليها لفانٍ وزائل، وإن المرجع إليّ فأجزي كلًا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها.
قال ابن هشام: الصّعيد وجه الأرض، وجمعه صُعُد.
قال ذو الرُّمّة يصف ظبيًا صغيرًا.
كأنه بالضُّحَا تَرمي الصعيدَ به ** دبّابةٌ في عِظام الرأس خُرطوم

وهذا البيت في قصيدة له.
والصعيد أيضًا: الطريق، وقد جاء في الحديث: «إياكم والقعود على الصُّعدات» يريد الطرق.
والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئًا، وجمعها أجراز.
ويقال: سَنَةٌ جُرُز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر.
وتكون فيها جدوبة ويبس وشدّة.
قال ذو الرمّة يصف إبلًا:
طَوَى النَّحْزُ والأجراز ما في بطونها ** فما بقِيتْ إلا الضّلوع الجراشِعُ

قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك.
قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رُقِم بخبرهم، وجمعه رُقُم.
قال العَجّاج:
ومُسْتَقَرِّ المصحف المُرَقَّمِ

وهذا البيت في أُرْجوزة له.
قال ابن إسحاق: ثم قال: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا}.
ثم قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم.
قال ابن هشام: والشَّطَطُ الغُلُوّ ومجاوزة الحق.